Site icon صحيفة الأمم اليومية الشاملة

عندما يصبح “فيسبوك” أكبر بنك مركزي في العالم!

العالم يتطور بسرعة مذهلة في كل المجالات تقريبا، بما في ذلك المعاملات المالية. لكن النقود لم تتغير كثيرا، وذلك على الرغم من ظهور طرق تسوية المعاملات إليكترونيا في العقود الأخيرة. الآن، يدق التغيير باب العملات التي نتعامل بها منذ قرون. الحلم الكبير الذي يراود مارك زوكربيرغ، هو أن يتمكن من تحويل فيسبوك من مجرد منصة كوكبية للتواصل الاجتماعي، إلى أول بنك مركزي خاص في العالم، وأن تصبح العملة الجديدة التي يخطط لإصدراها مع شركاء آخرين، هي أقوى عملات التداول وأكثرها انتشارا. العملة الجديدة لن تكون تقليدية مثل الدولار واليورو والإسترليني واليوان، وإنما ستكون رقمية مشفرة. كذلك فإنها لن تكون عملة مضاربة أساسا مثل البيتكوين ولكنها ستكون إلكترونية مشفرة، تستخدم في تسوية مدفوعات المشتريات السلعية والخدمية أونلاين. العملة الجديدة أطق عليها مؤسسوها اسم “ليبرا” الذي يعني الميزان في اللغة اللاتينية. ويأمل المؤسسون إصدارها في حزيران/يونيو العام المقبل 2020. عملية إصدار “ليبرا” تجري حاليا في جنيف، لإضافة جناح جديد إلى الخدمات التي يحصل عليها مستخدمو فيسبوك وغيرهم، يساعدهم على تسوية مدفوعات التجارة العينية وخدمات السفر والتنقل، وحتى تكلفة الاستماع إلى الموسيقى، أو المشاركة في مشاهدة الحفلات الفنية الحية، على الهواء مباشرة، من أي مكان في العالم.

النظام النقدي العالمي القائم حاليا، يعمل تحت قيادة البنوك المركزية الرئيسية، مثل بنوك الاحتياطي الفدرالي في الولايات المتحدة، والبنوك المركزية في بلدان مثل الصين وبريطانيا أو البنك المركزي الأوروبي، إضافة إلى بنك التسويات الدولية في سويسرا وصندوق النقد الدولي في واشنطن. في ظل هذا النظام تتم تسوية المعاملات، باستخدام عملات تصدرها سلطة سيادية، تتولى وضع ضوابط تحدد قيمة العملة، والعائد عليها وتكلفة الاقتراض بها. وساعد تطبيق هذه الضوابط على مر التاريخ، على خلق مستويات من الثقة والمصداقية لكل عملة من العملات، تختلف من عملة إلى أخرى. وهذا الاختلاف يؤثر في درجة قبول العملة والطلب عليها، ومن ثم في قيمتها التبادلية. فهناك عملات قابلة للتحويل مع عملات أخرى، وأخرى غير قابلة للتحويل. كذلك فإن هناك عملات ذات مصداقية تتمتع بدرجة عالية من الثقة، مثل الدولار الأمريكي، وأخرى محلية لا يثق أحد في قيمتها خارج حدودها.

في سياق عملية التغيير الجديدة، التي تحركها تكنولوجيا لم تكن موجودة من قبل، تقود مؤسسة فيسبوك وشركاؤها عملية وضع وإرساء دعائم البنية الأساسية الضرورية لإصدار ليبرا. وقد جاء في الإعلان التأسيسي للعملة الجديدة، أن فيسبوك كانت تستهدف ارتفاع عدد المؤسسين إلى 100 في نهاية العام الحالي. لكن العملية اصطدمت بعقبات كثيرة وقوية، أدت لانسحاب عدد من المؤسسين الرئيسيين منهم مؤسسات الدفع الإلكتروني “ماستركارد” و”فيزا” العالمية و”إي باي” ومؤسسات حجز السفريات والفنادق “كاياك” و”بوكينغ”. وقد أدت هذه الانسحابات إلى انخفاض عدد المؤسسين إلى 21 فقط، من أهمهم شركة فودافون العالمية للاتصالات، وشركة أوبر للتكنولوجيا، ومؤسسة ليفت العالمية، ومؤسسة باي يو الهولندية للمدفوعات الإلكترونية، إضافة إلى فيسبوك.

انسحاب فيزا وماستركارد وغيرهما، يعكس القلق الذي عبر عنه محافظو البنوك المركزية الرئيسية في العالم، وتأثير ما يمكن وصفه بتهديدات سياسية، ضد العملة الجديدة. الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قال في مؤتمر لقيادات منصات التواصل الاجتماعي هذا العام، إنه يعارض وجود العملات المشفرة أو الرقمية مثل بيتكوين أو ليبرا، لأنها يمكن أن تستخدم في تمويل تجارة المخدرات وغسيل الأموال وكافة أشكال التجارة غير المشروعة. وأعلن أنه إذا كانت فيسبوك لديها خطط لإصدار عملة رقمية، فإنها يجب أن تتقدم إلى السلطات النقدية الأمريكية، لطلب ترخيص يسمح لها بإنشاء بنك قبل أن تبدأ مشروعها. هذا يعني عمليا اخضاع العملة الجديدة لرقابة مجلس الاحتياطي الفدرالي الأمريكي.

مؤسسات النظام النقدي الدولي، من الولايات المتحدة إلى أوروبا والصين، عبرت أيضا عن قلقها من العملة المقترحة، على أساس مخاوف تتلخص في أن ليبرا ستتسبب في إضعاف النظام النقدي العالمي، وتؤدي إلى عدم استقراره، وتتجاهل قواعد الشفافية في المعاملات، ولن تحترم خصوصية وسرية حسابات المتعاملين، كما أنها ستفتح أبوابا واسعة لتمويل التجارة غير المشروعة. مارك كارني محافظ بنك إنكلترا، على سبيل المثال، حذر من خطورة الطريقة المقترحة لإصدار ليبرا، وقال إن العملة الجديدة يجب أن تخضع لجهاز تنظيمي وإشرافي مستقل، لا يكون مملوكا لمؤسسة فيسبوك أو غيرها من المؤسسات أو شركات التكنولوجيا المشاركة في الإصدار.

الكونغرس الأمريكي استدعى زوكربيرغ لمساءلة شرسة في جلسة استماع، شارك فيها أعضاء من المجلسين والحزبين الكبيرين. لكن مؤسس فيسبوك قرر أن يمضي قدما في مشروعه. المؤسسون الحاليون تجاهلوا هذه التحذيرات، واجتمعوا في جنيف يوم 14 تشرين الأول/اكتوبر الحالي، وأعلنوا تشكيل مجلس إدارة لرابطة ليبرا، يتكون من خمسة أشخاص. كما اتفقوا على أن تخضع ليبرا للقانون السويسري، وأن يكون اتخاذ القرارات في مجلس الرابطة بالأغلبية البسيطة، باستثناء المتعلقة بالعضوية، وبإدارة الإحتياطي النقدي للعملة، فتكون بأغلبية الثلثين.

وتأمل رابطة ليبرا، أن تصبح العملة الجديدة بعد إصدارها، هي المفضلة لدى مستخدمي فيسبوك، الذين يبلغ عددهم حاليا حوالي 2.3 مليار شخص. ولا يتوقف حلم مؤسسي رابطة ليبرا على المستخدمين الحاليين لفيسبوك، وإنما يتطلعون إلى جذب حوالي 1.7 مليار من الأشخاص البالغين على مستوى العالم، الذين لا يتمتعون الآن بامتلاك أي حسابات مصرفية. إن رابطة ليبرا تستهدف أن تجذب العملة الجديدة ما يقرب من نصف سكان العالم، وهذا طموح يتجاوز قدرات وصلاحيات أي بنك مركزي في العالم. وطبقا للبيان التأسيسي فإن حسابات حافظة أو حقيبة التعامل بليبرا، ستكون مستقلة عن الحسابات العادية لمستخدمي فيسبوك. بمعنى أن المستخدم، إذا أراد التعامل بليبرا في معاملاته أونلاين، فسيكون في حاجة إلى فتح حساب آخر مستقل لدى رابطة ليبرا.

وعندما تصدر ليبرا، ستحتاج بالتأكيد إلى وقت تحصل فيه على القبول والمصداقية أولا، قبل أن ينتشر استخدامها بين مستخدمي فيسبوك وغيرهم، ويكتتبون فيها أو يشترونها لغرض تسوية مدفوعات مشترياتهم أو الخدمات التي يحصلون عليها من آخرين. إن القبول والمصداقية والثقة واستقرار القيمة، هي الشروط الأولية لقبول أي عملة في حيز التداول. ومن المتوقع أن يستغرق وضع قواعد البنية الأساسية التكنولوجية لإصدار ليبرا حوالي 12 شهرا، بدأت فعلا قبل منتصف العام الحالي، وذلك بفضل التطور التكنولوجي السريع، خصوصا في تكنولوجيا “بلوكتشين” التي تساعد على تشفير النصوص بطرق محكمة، تمنع نسخها أو تكرارها، إلا بتعليمات من المستخدم نفسه، بعد إجراء اختبارات الأمان اللازمة. وكذلك وجود وتطوير أجهزة الذكاء الاصطناعي التي تستطيع حل عشرات الآلاف من المشاكل المتشابكة في آن واحد. بالإضافة إلى أجهزة السوبر كمبيوتر التي تعمل بآلاف أضعاف سرعة أجهزة الكمبيوتر العادية، ولديها القدرة بواسطة التكنولوجيات السابقة، على التعارف والتعامل مع بعضها مباشرة بدون تدخل بشري.

وبينما كان البنك المركزي الأوروبي الجديد بالتنسيق مع البنوك المركزية في دول منطقة اليورو (19 دولة من بين 28 دولة عضو في الاتحاد الأوروبي) هو الجهة التنظيمية لإصدار اليورو، التي استغرق إصدارها 10 سنوات (1992 إلى 2002) فإن إصدار ليبرا يجري الإعداد له بواسطة الرابطة الخاصة المؤلفة من 21 مؤسسة متعددة الجنسية، تعمل في مجالات متنوعة تشمل قطاعات التكنولوجيا والاتصالات والنقل والموسيقى والمدفوعات والتسويات المالية وغيرها. ويتولى جهاز فني تابع لمجلس الرابطة وضع القواعد والمعايير التقنية والاقتصادية للعملة الجديدة، بما يضمن توفير الحوافز الكافية لضمان جاذبيتها، والاقبال على استخدامها في تسوية المدفوعات عبر منصة فيسبوك.

هذا يعني ببساطة أن رابطة ليبرا، طبقا لمشروعها الحالي، ستكون هي نفسها، البنك المركزي صاحب امتياز إصدار ليبرا، وهي نفسها الجهة التنظيمية والرقابية. وهي التي ستحدد القيمة الأولية للعملة عند الإصدار، بناء على سلة عملات دولية متنوعة، غير تلك التي يعتمد عليها صندوق النقد الدولي في حساب قيمة عملته، المسماة (وحدة حقوق السحب الخاصة-إس دي آر). ومع ذلك فإن التزام ليبرا ومؤسسة إصدارها بالقانون السويسري، حسب الإعلان الأخير للمجلس، يرجح أن تخضع العملة الجديدة وضوابط إصدارها وتداولها، لنوع من الرقابة من جانب بنك التسويات الدولية. وليس من الواضح حتى الآن ما إذا كان سيتعين على الرابطة أن تحصل من السلطات السويسرية على ترخيص لمزاولة النشاط المصرفي كبنك، وما إذا كان ذلك سيمنحها صلاحيات لإصدار العملة.(القدس العربي)

Share and Enjoy !

Shares
Exit mobile version