تماما كما هي ظاهرة عالمية باتت مواقع التواصل الاجتماعي للمجتمع الأردني، بما توفره من حرية شبه مطلقة في النشر والتداول والتعبير، صانعة للرأي العام وموجهة للاهتمام والنقاش المجتمعي وإحدى أدوات التأثير المهمة في المجال العام. إلا أن الفخ الذي نقع فيه في الحالة الأردنية كما في حالات المجتمعات النامية والتي تغيب فيها الديمقراطية وتتغول فيها السلطة وتضرب فيها أدوات المجتمع المدني، هو في أن هذا الفضاء الإلكتروني وحراكه المستمر يصبح بديلا عن الأدوات المدنية الأساسية على الأرض التي يفترض بها قيادة الحراك المجتمعي وتنظيمه وتأطير خطابه وبرنامجه.
هذا الغياب أو التغييب للأطر المدنية المفترض بها قيادة التحول والحراك المجتمعي، من أحزاب ونقابات ومنظمات شبابية وطلابية وقطاعية وإعلام وحتى مؤسسة برلمانية وهو تغييب يتعلق بحضور الدور وقوة التأثير لا الوجود الشكلي والضعيف، لم يكن ناتجا عن التضخم والحضور الطاغي لمواقع التواصل الإلكترونية والثورة الشاملة التي شهدتها، بل هو غياب سابق أو مواز لكن لأسباب أخرى أعمق كثيرا من منافسة القادم الجديد، والذي اكتفى بملء الفراغ الذي وفره ذلك الغياب ولكنه بلا شك لم يكن قادرا ولن يكون بإمكانه سد الحاجة الحقيقية والأساسية لتلك الأطر المدنية لإنجاز التحولات المجتمعية المطلوبة.
لا يستطيع أحد التقليل من أهمية مواقع التواصل الإجتماعي والتفاعل الشعبي الواسع عبر المنصات التي توفرها، ولا من قدرتها على التأثير والتغيير والترشيد في القرار الرسمي وقدرتها على التحشيد والرقابة على الأداء العام، لكنها بطبيعتها وديناميكيات النشر والتفاعل فيها وحسب التجارب الملموسة لا يمكن أن تشكل الأداة الطليعية والمتقدمة للحراك المجتمعي المنتج وإن كانت قادرة على المساهمة فيه، بل إن الاكتفاء بها بديلا عن دور الأحزاب والنقابات ومؤسسات المجتمع المدني والنخب الثقافية والفكرية في تفاصيل المجتمع ذاته قد يقلبها إلى سلاح خطير قادر على إطلاق الفوضى والاستقطابات والانتحار الذاتي وضياع بوصلة الحشود وتضليلها حتى ضد مصالحها.
والمشكلة أن الحماسة وحجم التضليل الذاتي قد يدفع البعض وأحيانا الكثيرين إلى الاعتقاد بأن ما توفره مواقع التواصل الاجتماعي من مساحات حرة ومفتوحة يمكن أن تسد عن الحاجة لأدوات بناء الديمقراطية على أرض الواقع بحجة ضعف الأخيرة أو تماهيها مع السلطة والوضع الفاسد القائم، وهذا اعتقاد خاطئ بل وقد يكون مطلوبا من قبل السلطة التي طورت من أدواتها للتعامل الناجع مع القادم الجديد وعرفت مفاتيح التأثير فيه وأصول لعبته، بالرغم من تكرار شكواها -أي السلطة- من هذا العالم الافتراضي وما ينشر عبره، لكنها شكوى المتمكن والقادر على الاستفادة حتى من الشكوى لفرض سيطرته على رياح التغيير وتوجيهها حيث يريد.
المعركة الرئيسة في التغيير والإصلاح تكمن هناك، على جبهة أدوات بناء الديمقراطية على الأرض، من نقابات وأحزاب ومجالس نيابية وإعلام ومؤسسات مجتمع مدني وحركات طلابية وشبابية، لذلك كان القصف والهجوم الأساسي والمركز والمثابر باتجاه تلك الأدوات، عبر تشريعات وسياسات وقرارات فوقية وعبر اختراقات واحتواءات لا تعد ولا تحصى، والنتيجة اليوم ماثلة على الأرض، تجريف وتصحير شبه شامل للحياة السياسية ونزع للدسم من الأحزاب والنقابات والبرلمان وكل العناوين المجتمعية الفاعلة لصالح تضخم السلطة وأذرعها ونخبها الزائفة.
لن تكون مواقع التواصل الاجتماعي وما توفره من سقوف وحريات شبه مطلقة، على كل أهميتها وضرورتها، بقادرة على إخراج المجتمع من الحلقة المفرغة التي يدور فيها، ولن تكون بديلة عن النضال المجتمعي الحقيقي لاستعادة وبناء الحياة الحزبية والنقابية والنيابية السليمة والفاعلة، ففي لب هذا النضال يكمن الإصلاح والتقدم والتنمية للدولة والمجتمع.