Site icon صحيفة الأمم اليومية الشاملة

الإدمان العربي على الغرب

في اقتباس مشهور عن رئيس الوزراء البريطاني الجديد، كير ستارمر يقول فيه إن مشكلتنا مع المسلمين ليست مع قادتهم فنحن نستطيع تغييرهم متى نشاء، ولكن مشكلتنا مع الدين الإسلامي، والعرب هم حملته وسدنته. ومن هنا يأتي الخلاف. وبعبارة أخرى، فإنه يصف الموقف بين العرب والغرب بأنه صراع حضاري.

والواقع أن الغرب الأوروبي قد تراجع دوره بعد الحرب العالمية الثانية، ونما مكانه الدور الأميركي الذي كان قوياً في عدائه للعرب، وفي السعي لتفريقهم. وقد بات من المطلوب حالياً أن نضع دراسة شاملة لتقييم هذه العلاقات. والسبب أن العرب قد أدمنوا الحضارة والمنتجات والخبرات والثقافة الغربية إلى حد الهوس. ولكن، وبعدما ازداد إدراك الدول العربية لحجم مقدراتها، بات الغرب أكثر ميلاً إلى التعامل مع الوطن العربي.

وتحولت العلاقات حتى مطلع القرن الحادي والعشرين من احتلال واستعمار إلى تفاعل اقتصادي واجتماعي وتكنولوجي للاستفادة من فوائض الأموال العربية، وإعادة الميزان التبادلي لصالح الغرب خاصة بعد عام 1973، أو بعد حرب أكتوبر وما تلاها من شراكات ومؤتمرات وندوات واتفاقات واستثمارات وشركات ذات امتياز (Franchises). وقد ساعد الغربَ على ذلك أمران: أولهما تراجع دور الاتحاد السوفييتي وسقوط تلك الإمبراطورية بوصفها دولة منافسة للغرب، والأمر الثاني دخول الصين والهند إلى عالم التكنولوجيا الرقمية والصناعية. وحاجة كليهما في ذلك إلى الغرب المتطور.

ولهذا تمتعت الولايات المتحدة بتفوقها الذي جعلها تقف وحيدة وقطباً واحداً على قمة هرم العالم من حيث القوتين الناعمة والخشنة. وقد بدأ الغرب بعدها يعزز مكانته مستثمراً ذلك الحدث العجيب الذي وقع يوم الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، قبل أكثر من ثلاثة وعشرين عاماً، حيث حصل غزو للعراق بدون مبرر عام 2003، والربيع العربي منذ 2010 حتى بداية وباء الكوفيد -19، ومن بعده حرب أوكرانيا حتى وصلنا إلى الحرب على غزة، والآن الحرب على لبنان.

ولم يبق من الدول العربية أحد لم يتأثر بما جرى خلال هذين العقدين الأخيرين من القرن الحادي والعشرين. ولكن بعض الدول وجدت لنفسها طريقاً لكي تجتاز تلك المحن من خلال السعي للتفاهم مع الغرب بدلاً من أن تقف أمامه متحديةً. ومن الأمثلة على ذلك الأردن خارج نطاق دول الخليج، ودول الخليج الست باستثناء ما شاب العلاقات الأميركية السعودية بسبب قضية جمال خاشقجي. ولقد وجدت السعودية ضالتها في شخص دونالد ترامب الذي هزم هيلاري كلينتون في انتخابات عام 2016، وعقد صفقات مع السعودية أراحتهم ووفرت لغروره فرصة للتباهي.

المهم أن الوطن العربي بعد كل هذه الأحداث يجد نفسه يتساءل: هل هنالك وطن عربي؟ هل هنالك حتى عالم عربي؟ والبعض ينتقض هذا الاصطلاح من أطرافه حتى يوصله إلى مرحلة التساؤل هل هناك أقطار عربية؟ وما يزال البعض يرى في الوطن بحكم وحدة اللغة والجغرافيا والتاريخ والمصالح أشياء تجمعه نظرياً. ولكنها في الواقع تفصله عن بعضه البعض، كما قال الكاتب والشاعر الإنجليزي الأيرلندي أوسكار وايلد بعد زيارته الشهيرة للولايات المتحدة التي طالت لمدة عام وانتهت عام 1883. وقد قال عام 1887 في تعليق له على المقارنة بين الجزر البريطانية والولايات المتحدة: نحن دولتان متشابهتان ولكن تفرقنا لغة واحدة.

أما العرب، فقد أصبح كل وجه شبه أو تماثل بينهم ظاهرة سالبة تفرقهم. فهم مختلفون في اللغة وأسلوب استخدامها ويستعيضون عنها باللغات الأوروبية، خاصة الإنجليزية ثم الفرنسية، والدين قد فرقهم بين سنة وشيعة إلى غيرها من التقسيمات، وصارت الهوية الدينية الفرعية مرجعيتنا لنحكم على من هم أعداؤنا وأصدقاؤنا، وكذلك التاريخ الذي عشناه يخضع لتفسيرات وإعادة تأريخ من أجل اثارة النعرات والفتن، بدلاً من أن نستخدمه لخدمة المستقبل الجامع. وبلغ التشكيك في رواياتنا التاريخية حداً صرنا نشكو عنده استغراقنا في الماضي بدل البناء والعمل لما هو آت في المستقبل.

ورافق ذلك كله هجمات شرسة على ديننا مأخوذة عن ممارساتنا لهذا الدين، والتي يرقى بعضها إلى حد مخالفة نصوص الدين صراحة. نحن نختلف حول المحرمات، والقصاص، ومعاملة المرأة، وتمكينها، ومفهوم التعامل مع أهل الديانات الأخرى، وحول تعدد الزوجات، والمعاملات المصرفية والمالية، ودور الصحابة من آل البيت، وغيرها. وهذه كلها أوقعت الشباب في حيرة. وقد هرب كثير من شبابنا للتعلم والعمل في الغرب لأنه يوفر فرصاً أفضل، وحياة أكرم، ووطناً أرحب من الوطن العربي الذي تضيق فرص الحياة الكريمة فيه، وتغلق الحدود أمام الحركة بين أقطاره، ويتصاعد التمييز ضد بضائعه، وقد رأينا كل ذلك يسير لصالح الغرب.

وفي عصر العولمة التي هجرها الغرب وأضعف كل مؤسساتها مثل حقوق الانسان، والتعاون البيئي، ومنظمة التجارة العالمية، وحتى منظمة الأمم المتحدة، فإننا وجدنا أنفسنا بعدما رَجوْنا وعدلنا قوانيننا لكي نصبح أعضاء في هذه المؤسسات، أن الشيء الذي كان فائضاً لدينا، وهو المال، قد أصبح مصدر ضغط علينا.

نحن نسلم الغرب المعادي لنا كل مقدراتنا، فأموالنا في بنوكهم، ومؤسساتهم الغربية تستخدم مالنا المودع لديهم لمقاطعتنا وتهديدنا، وكذلك استثمرنا عندهم بمقدار لا يقل عن ( 2) تريليون دولار لنكون تحت رحمة قراراتهم، وأولادنا النجباء نودعهم في جامعاتهم ومدارسهم، وخبراؤهم هم الذين يشيرون علينا بماذا نفعل، وبضائعهم تمثل بالنسبة لنا أغلى السلع وأجودها. ونحتاج خدماتهم البحرية، والمعلوماتية والاستثمارية، للاستفادة من الطاقة الشمسية التي حبانا الله بوفرة منها، وما زال نفطنا وغازنا يستخرج من قبلهم، وينقل عبر العالم بسفنهم. وأفلامنا وكتبنا وقراءاتنا وأدويتنا وأثاثنا يأتي جزء كبير منها من بلدانهم. وذهب الحد في البعض ليقول لنا كما فعل الكاتب الأميركي توماس فريدمان في كتابه الشهير “الليكزس وشجرة الزيتون” حين كتب: “لم تدخل دولتان في حرب بعدما سمحتا للقوس الذهبي (شعار ماكدونالز) أن يدخل حدودهما ويفتح فروعاً له فيهما”.

وجاءت حرب غزة، فرأينا أن الحب والانبهار الذي نكنه للغرب الذي يكرهنا ولا يريد مهاجرينا ويهاجم كل شيء يشكل هويتنا لم يكن متبادلاً على الاطلاق. صحيح أن بعضهم مدفوعاً بما يعلمه عن تاريخ إسرائيل الأسود، أو بحكم معرفته بمواطنين من أصول عربية، أو بحكم إيمانه الديني الأصيل وفهمه الأساسي للمسيحية، قد خرج للشوارع مؤيداً ومؤازراً الأهل في قطاع غزة وشاجباً الوجه الإسرائيلي القبيح، ولكن هذا لا يغير رأي الأكثرية في أنهم تربوا على كره الإسلام والخوف منه، واتهام أهله بالبربرية.

وبدا واضحاً أن المقاطعة العربية للبضائع الأميركية والأوروبية، خاصة شركاتهم الكارهة للإسلام أو المؤيدة لبطش الاحتلال والضالعة في تمويل إسرائيل وعدوانها ومستعمراتها في فلسطين، قد بدأت تشعر بعمق أثر المقاطعة عليها تسويقاً وتمويلاً. وهذه بداية متميزة لأنها فتحت أعيننا على حقيقة أساسية، وهي أن الغرب يربح منا مليارات الدولارات سنوياً، ونحن نغض الطرف عما يفعله بنا من تآمر وقتل، خاصة ضدنا نحن العرب.

إن الغرب يستخدم وسيلة المقاطعة ضدنا دائماً ويهددنا مرة بالحجر على أموالنا في مصارفهم، وتارة بوقف تزويد الأسلحة الدفاعية وقطع الغيار، ومرة بمنع شركائنا من الاستثمار في قطاعات يعتبرونها حساسة، وإذا قمنا نحن بالرد عليهم بإجراءات مماثلة أقاموا الدنيا علينا وما أقعدوها.

لم يعد هذا العالم أحادي القطبية. ونحن كعرب يجب أن نبني استراتيجية لا لكي نصبح متكاملين متوحدين، بل للحفاظ على وحدة الأقطار وكرامتها، ولكي نعزز حدودنا ومشروعاتنا الاستراتيجية لربط اقتصاداتنا مع بعضها البعض، ونعطي أنفسنا حق اختيار الشريك الاقتصادي الذي يعطينا أحسن الشروط.

هذا الافتتان بالغرب بات مكلفاً، وسوف نخسر هويتنا، وحضارتنا، وثقافتنا، وثرواتنا، وأموالنا إن بقي حبنا له على ما هو عليه… أحادي الطرف.

“العربي الجديد”

Share and Enjoy !

Shares
Exit mobile version