في زمن كورونا تتغير الأولويات، وتدخل على حياتنا عادات جديدة لم تكن حاضرة في أوقات سابقة، فكورونا التي قيّدتنا في البيت، جعلتنا نتعرف على أنفسنا من جديد، نتعرف على المكان الذي كنا نسكن إليه، نتعرف على أولادنا وعوائلنا وميولهم وأفكارهم، نعرف كيف يفكرون وكيف يتعاملون مع الأشياء، نعرف زوجاتنا وأمهاتنا وأخواتنا بشكل مختلف، ونعرف أن البيت لم يكن بالنسبة لهنّ مكان راحة فقط، وإنما مكان عمل متواصل، جعلتنا نعرف كم تمكث سيدة البيت في المطبخ لتلبية طلبات الأولاد ونظافة المكان، والتعامل مع حاجيات أخرى كنا نجهلها أو نغض النظر عنها.
نتمنى أن تنتهي الأزمة التي تجتاح العالم قريبا، وأن نخرج للشارع ونرى السيارات، والناس تعمل، ونشاهد العمال في مصانعهم والمطاعم تفتح، والأماكن عاد لها وهج الناس وحضورهم، وصحيح أننا نريد أن نرى عمان وباقي محافظاتنا، وأن نمشي في شوارعها نحتضن أهلها نخبرهم بشوقنا، ولكننا في الوقت عينه نريد أن نخرج للشارع ولعمان وباقي محافظاتنا لكي نحضنها بعد أن نكون قد التزمنا بيوتنا ومارسنا حماية ذاتية على أنفسنا وعلى محيطنا ومنعنا انتشار الوباء، وخلصنا وطننا منه واحتفلنا.
وقت ذاك يمكننا أن نخرج لنتحدث عن الشوق للمكان، فأنا العماني شوقي لوسط البلد كبير، فهذا المكان أعشقه وأشعر انه يعشقني، وأتمتع وأنا أتمشى فيه وكأنني أتحسس أقدام عوالم مرت سابقا، وأخط بقدمي خطوة جديدة لعوالم ستأتي بعد مئات السنين لكي تعبر من المكان ذاته، وتشعر بذات العشق الذي يشدني.
الحق يقال، فالحب لا يمكن أن يخفيه عاشق، اشتقت لعمان كما اشتاق غيري لذات المكان، ولأماكن أخرى، اشتقت لإربد، وأن اصطحب أولادي وزوجتي إليها لنتناول الغداء في أحد مطاعمها، ومنها نمر لأم قيس نسلم على المكان، نلقي التحية على الجولان المحتل وطبريا السليبة، نستذكر معا أنشودتنا الخالدة ونحن نطالع البحيرة فننشد (وجوه غريبة بأرضي السليبة)، اشتقت للكرك وقلعتها، والسلط وشوارعها، ومادبا وأزقتها، وعجلون وهواءها وربضها، وجرش وأعمدتها، والمفرق ومن مر بها، والزرقاء ومن سكنها، والطفيلة وروعتها ومعان وبيوتها والعقبة وبحرها.
اشتقنا والمحب لا يخفي شوقه، اشتقنا لكل محافظاتنا وألويتنا ولكننا في الوقت عينه نشتاق أكثر للأردن الذي نحب، والذي وجب علينا حمايته حتى يبقى هذا الحمى وشعبه بخير، وحتى نخرج معا من تلك الأزمة ونحن أكثر قوة وقناعة أننا يجب أن نكون معا، نؤسس للأردن الذي نريد، ونصنع الحلم الذي كنا نفكر فيه، حلم كنا نتحدث عنه طويلا في المؤتمرات وأوراق العمل، وأن ننتقل بالأردن أنموذجا وطنيا ديمقراطيا يتسع للجميع، أردن يسوده القانون وتعمده الحرية، بحريات وأحزاب ونقابات وبرلمان، أردن قوي لدولة حضارية منتعشة بهمة مواطنيها، أردن نرفض فيه جميعا أن يكون أحد فوق القانون، أردن بلا واسطة أو محسوبية أردن تتعزز فيه قيم المواطنة، وتسوده العدالة، ونجتث فيه الفساد والإفساد.
فدعونا نستفد من العبر الذي يتوجب استخلاصها من أزمة كورونا، ونقتنع أن هذا الوطن يتوجب حمايته، وأنه يمكن أن نخرج من أزمتنا أكثر قوة وقناعة بأننا يتوجب أن نؤسس لدولتنا المدنية التي نريد، دولة تذوب فيها العصبية القبلية ويحضر فيها حب الوطن وفكر الوطن وأن الوطن للجميع، دون استثناء.
وأخيرا يحق لي أن أقول إنني اشتقت لشوارع بلدي لأزمة السيارات فيها، اشتقت للعبدلي والحسين والنظيف واللويبدة والنزهة والتاج والأشرفية والمصدار والشميساني والرابية ووادي السير ومرج الحمام وصويلح وضاحية الرشيد، ولكني سأبقى أسير شوقي حتى نتعافى جميعا ونخرج لنحتفل معا.