اللغة وعاء للثقافة واداة للتفكير ووسيلة للتعبير. في الحالات التي تتعرض فيها المجتمعات الى حوادث او ازمات تتأثر اللغة بصفتها الوعاء التعبيري والرمزي للتجربة الانسانية. فقد تنحت اللغة مفردات وتراكيب ومصطلحات جديدة او تفرض بعض المفردات المستوردة نفسها على جسم اللغة فتسهم في تغيير المعنى والدلالة وربما تعمل على تغييرالاتجاهات المرتبطة بدلالة الرمز. خلال الازمة الاخيرة شاع استخدام العديد من المفردات التي كان الناس يستخدمونها في سياقات مختلفة لتصبح مكونات اساسية ومفردات ضرورية للتواصل والفهم للخطاب المتداول حول الازمة التي يعايشها المجتمع. مفردات «المخالطين» و «مخالطين المخالطين» و»سائقي الشاحنات» و «التباعد الاجتماعي» وغيرها من المفاهيم التي كنا نستخدمها اصبح لها مدلولات ومعان جديدة.
قبل تسجيل اولى حالات الاصابة ب COVID-19 واعادة احياء التداول لمصطلحات الحظر والحجر والعزل وانطلاق حملات الترويج للتباعد الجسدي كانت اللغة بسيطة ومألوفة تطورت مفرداتها من طبيعة النشاطات والاصوات التي سمعها الناس وتوارثوها عبر تفاعلاتهم مع محيطهم وسط الجماعات التي تعاونت على الاستجابة لتحديات الطبيعة وتقاسم المهام والادوار للبقاء وتحسين شروط الحياة .
اللغة والنجاحات التي حققها البشر في رحلة التكيف والانجاز كانت بفضل التعاون والعمل معا وما يتضمنه ذلك من تفاعل واختلاط وتعلم. بدون التعاون والتقارب والعمل المشترك كان من الصعب وربما المستحيل ان تنشأ الحضارة التي قال ابن خلدون ان الاجتماع الانساني شرط من شروطها . وداخل هذه الاوساط تتم عمليات الترميز والتفاعل ونشوء الثقافة بما تحويه من اساطير ولغة وافكار وعادات وتقاليد ومعتقدات وفنون وآداب وقيم وقوانين واخلاق تعمل على توحيد المشاعر وبناء الهوية وخلق الاستعداد للاشتراك والتفاعل المستند الى المكونات التي يستدخلها الافراد عبر عمليات الإعداد والتنشئة.
قبل اشهر من اليوم ما كنت لأستوعب الدعوات التي يوجهها خبراء الصحة وعلم الاوبئة للناس بأن يتباعدوا. فالمفهوم مناقض لكل ما هو انساني ويتعارض مع حقيقة الميل الفطري لدى الانسان للاجتماع والتواصل. في حالات كثيرة كان الاطباء يصفون الاشخاص الذين يفضلون الاعتزال بأنهم انطوائيون او غير اجتماعيين وتعتبر مثل هذه الصفة مؤشرا على غرابة السلوك واحتمالية القيام بأفعال غير مقبولة اجتماعيا.
اليوم وأينما ادرت وجهك تلاحقك الاعلانات والارشادات واحيانا المخالفات اذا لم تبد التزاما بالقواعد الجديدة الداعية الى الابقاء على مسافات آمنة بين الافراد وارتداء ادوات الوقاية والسلامة والابتعاد عن كافة اشكال التقارب او التفاعل الذي طالما كان التعبير الأوضح والأهم للحياة الاجتماعية وتلاوينها التي ميزتها وتميزها عن بقية الانواع والكائنات الاخرى.
فيما يشبه الثورة على العادات والممارسات والسلوك اصبح الفرد مجبرا على التباعد والإبقاء على مسافة بينه وبين الآخر باعتبار ذلك الوسيلة الآمنة لتجنب العدوى والحفاظ على السلامة. في كل بلدان العالم اصبحت السلطات تملك سلطة غير محدودة في الافصاح عن الحالة الصحية للاشخاص وإرغام المصابين على البقاء في المصحات وتلقي العلاج ومنع المعرضين للاصابة من الحركة خارج مناطق الحجر اضافة الى تقييد حركة جميع السكان واخضاعهم لقواعد وشروط تضعها تبعا للحاجة.
الاصطلاحات الجديدة المتعلقة بالاختلاط اصبحت تسترعي اهتمام السامع وتشير الى مستويات متفاوتة من الخطورة. في كل مساء ومع اطلالة وزير الصحة من خلال منصة مركز الازمات يستمع الجمهور الى الايجاز الصحفي الذي يعرض عدد الاصابات واماكن انتشار العدوى والحالة العامة للمصابين مضافا اليها الموعظة القصيرة التي غالبا ما تدعو الناس الى التباعد وتحثهم على الصبر والتعاون.
في كل مرة يجري الحديث فيها عن الوباء وشكل التفشي يستخدم الخبراء مصطلحات اصبح الناس يعرفونها ويعون دلالتها. الاصطلاح الاكثر شيوعا في ادبيات الحديث عن الانتشار يشير الى مسارات التتبع التي تسلكها فرق الاستقصاء الوبائي وتعبر عنها بـ«المخالطين» و «مخالطي المخالطين» . دلالة هذه المفاهيم تشير الى ان هناك مصدرا معروفا او شخصا مصابا وكان من المفروض الا يتواصل او يختلط مع احد الا انه قد فعل ذلك فتولدت جماعة اعتبرت من منظور المتتبعين «مخالطين» يمكن ان يكون بعضهم او العديد منهم قد اصيبوا بالفيروس ونقلوه لغيرهم دون علم.
السياق الجديد لاستخدام المفردات التي تولدت او نحتت او ترجمت او جرى احياؤها سيبقى المحدد الاهم لوقعها ودلالتها وتاثيرها. فالمخالطون ومخالطو المخالطين وسائقو الشاحنات والتباعد الاجتماعي مصطلحات أعيدت للاستخدام في سياق الازمة لتحمل المعاني التي حملها لها الاستخدام والوصمة التي صاحبت ذلك الى ان يتغير السياق ويتبدل الاستخدام والمعنى.