ثلاثة أشهر وأغلبنا يعلن تأثره على عدم الصلاة في المساجد، بمن فيهم كاتب هذه السطور، وقرأنا عشرات آلاف التعليقات الحزينة التي كتبها أصحابها ردا على جملة “صلّوا في بيوتكم”.
المفارقة أن الشعور بالخسارة على عدم الصلاة في المساجد، شعور إلكتروني في حالات كثيرة، لأننا قبل الوباء، لم نكن نجد أكثر من صف واحد من المصلين في المساجد، في الصلوات العادية، فيما صلاة الجمعة كانت تفيض المساجد بمن فيها، فلا تعرف هل شعر الناس متأخرا بقيمة ما فقدوا، أم أنها مناخات ضاغطة نفسية مؤقتة لدى كثيرين؟
هذا الكم الهائل من الإيمان الذي لمحناه خلال الأشهر القليلة الماضية، أمر جميل، لكنه يتناقض مع واقعنا، فأغلب الناس يأكلون إرث البنات، مثلا، وكثرة لا تصلي، أساسا، وتذكرتْ الصلاةَ فقط عند المنع في سياقات الحديث عن مؤامرة كونية تتورط فيه حكومة المملكة العتيدة، لمنع المصلين من التدفق إلى المساجد.
كل صلاة جمعة، وحين أكون بين الآلاف في المسجد، أسأل نفسي وأنا خارج من الصلاة، سؤالا متكررا، إذا كنا جميعا أخيارا هنا، فأين هم الأشرار، وإذا كانت كل المساجد تفيض بمن فيها، وكأننا جميعا خيرة المؤمنين، فأين هم القساة والأشرار، الذين يأكلون أجر العامل الوافد، أو يؤخرون دفع الحقوق، أو يزورون أمهاتهم في المناسبات، أو يتخلون عن آبائهم، أو يحرمون يتيما، أو يقطعون إشارة سير، أو يرمون بالنفايات من شباك السيارة، أو يكذبون، أو يدعون الفقر وقلة الحيلة، والمال مكدس تحت مخداتهم، أو يتهمون غيرهم زورا وإثما، أو لا يتورعون عن فعل أي شيء، من أجل الوصول إلى المال، حلالا أو حراما؟.
نعود اليوم إلى صلاة الجمعة، وهذا يوم سعيد حقا، والحمد لله، أن منّ علينا، بكرمه وفضله، لكنها مناسبة حقا، أن نراجع أنفسنا، فالصلاة ليست مجرد عبادة أو حركات، هي جزء من منظومة روحية وأخلاقية، عمادها حسن المعاملة، وأداء الحقوق، وعدم التسبب بالأذى للآخرين، وعكس قيم الدين الحيّة على التصرفات، في كل مكان، وبدون ذلك سنعود إلى حالتنا الأولى، مجرد صلاة، فيما التصرفات ذاتها مختلفة تماما.
لا يمكن التشكيك في دوافع الناس، ولا قراءة قلوبهم، لكننا بكل صراحة نجد أنفسنا حيارى أمام مجتمع بوجهين، أو هويتين، واحدة حقيقية نراها في حياتنا اليومية، وثانية مختلفة تماما نراها على وسائل التواصل الاجتماعي، الأولى مليئة بالسلبيات وسوء التصرفات وأكل الحقوق، وسوء المعاملة، والثانية تقول لك إنك في مكة المكرمة بعد نزول الرسالة ونصرتها.
كتبت مرة عن قصة صديق بريطاني، انتقل إلى رحمة الله عن عمر تسعيني، وكان يترجم الكتب العربية إلى الإنجليزية، وقد أسلم منذ عقود، وقد ذهبنا معا إلى صلاة الجمعة، وحين خرجنا من المسجد، أشار بيده إلى آلاف الأحذية الملقاة عند باب المسجد فوق بعضها البعض، وقد تناثرت، وداس الناس عليها وعلى أقدام بعضهم عند الخروج، وقال لي بمرارة يومها، إذا أردت أن تعرف موعد نهضة هذه الأمة، فعليك أن ترى أولا، مشهدا غير هذا المشهد، أي حين ترى ترتيب الأحذية، بطريقة محترمة، وخروج الناس من الصلاة دون تدافع، فوقتها ستعرف أن كل شيء قد بدأ يتغير، والقصة بقيت في ذاكرتي حتى يومي هذا خصوصا، حين أرى مئات السيارات قد أغلقت الطرقات أمام المساجد، فوق باعة الخضار والبيض، الذي يبيعون ويتركون نفايات سياراتهم أمام المسجد بعد الانتهاء من صلاة الجمعة، والمغادرة.
القصة ليست قصة انتقاص من إيمان المؤمنين، لكن القصة تتحدث هنا عن أن الصلاة ليست عبادة دون قيمة أخلاقية، وحين ترى كل هذا التأثر على المساجد المغلقة، تسأل نفسك عن تصرفاتنا في الواقع، مع بعضنا البعض، وقد خرج أغلبنا من أزمة كورونا، أكثر حنقا، وضاقت أخلاقنا، وكل واحد فينا يريد أن يأكل لحم الآخر، تعويضا عن خسارته، أو يريد التخلص من صغار موظفيه لتعزيز أرباحه.
“صلوا في بيوتكم”، مؤلمة حقا. لكن ما هو أكثر إيلاما منها، أن تبقى أحوال قلة فينا، مثل الذئاب التي ترتدي صوف الخراف، ظاهرها بريء وأبيض، وباطنها ذئاب متوحشة لا ترحم أحدا.
أحسب نفسي أكثركم ذنوبا، وأرجو الله لي ولكم حسن الخاتمة.