سألني أحدهم: لماذا لا تكتب في الشأن السياسي؟
في الحقيقة، السؤال صعب جدا، ليس لجهة إجابته، بل لجهة جهل صاحبه بمعنى السياسة ومتعلقاتها!!
أستطيع أن أزعم أن إصلاح البنى الفكرية والسلوكية، بمحمولاتها الاجتماعية والثقافية و”القمية”، تقع دائما في أعلى مراتب الإصلاح السياسي، بصفتها إصلاحات موجهة إلى المجتمع ككل، أو تستهدف اللبنات الأساسية لأي مجتمع أو تنظيم أو تجمع، بمعنى أنها تؤسس لـ”بنى فوقية” جديدة، وهدم السائد البالي.
هذا الإصلاح هو أصل كل سياسة، وهو الأخطر والأصعب، فالاصطدام بما يمكن تسميته “الوجدان الجمعي” هو أكثر خطورة من مجرد الكتابة عن حكومات تأتي وتذهب، ولا ندري لماذا جاءت أو ما الذي أطاح بها، أو عن سياسات تتغير بلا أي بوصلة!!
الكتابة عن المجتمع وثقافته، أو ثقافاته، ومحاولة تفكيك بناه الفوقية هو ما يصنع التغيير. قد يكون تغييرا بطيئا، وربما يواجه بكثير من المقاومة، ولكن في النهاية فإن التغيير الذي يستهدف القواعد هو دائما عملية بطيئة تحتاج إلى طول نفس، وإلى إيمان بالعمل الذي يقوم به الفرد أو الجماعة، وأيضا فهو لا بد أن يواجه بمقاومة شديدة، إذ أن محاولة خلخلة المفاهيم السائدة هي محاولة لـ”زحزحة” المجتمع عن “مناطق الراحة” الخاصة به، وهي أشبه بـ”إعلان حرب” عليه، لذلك إذا لم تواجه العملية بمقاومة فمن الأجدى أن نسأل أنفسنا إن كنا نسير في الطريق الصحيح أم أن علينا تغيير مسارنا!
في المفهوم الشعبي البسيط، يتمحور مفهوم السياسة حول أجهزة الدولة والحكومة ومؤسساتها، وسياسات هذه الجهات وإجراءاتها، سواء كانت داخلية أو خارجية. وأحيانا يمتد المفهوم في الفهم الشعبي إلى سلوكيات طبقات الحكم، سواء ما يتصل منها مباشرة بالحكم، أو على المستوى الشخصي. لكن هذا الفهم الساذج يستثني ما تم التواطؤ عليه من بنى ثقافية ومفاهيم مجتمعية، وتقاليد صارمة، ويستثنيها من إخضاعها للتفكيك، من أجل بناء منظومات جديدة تصلح لأن نعيش تحت مظلتها، أو أن نتواطأ من جديد على مجموعة من المفاهيم التي يمكن لها أن تحكم سلوكنا في المجتمع، وتحديد رؤية جديدة لمفاهيم الانتماء والمواطنة والهوية، إلى غيرها من المفاهيم الأخلاقية أيضا.
حين تكتب، مادحا، عن فني تصليح مركبات مجدّ، فأنت هنا تروج لفضائل مهمة؛ الصدق والإخلاص والأمانة والاستقامة والتعامل الأخلاقي، وهي مفاهيم مهمة جدا لبناء المجتمع السويّ، وبالتالي لبناء الدولة التي يقدس أفرادها هذه المفاهيم، التي لا بد أن تتمظهر في السلوك العام، لتصبح بالتالي سمة مميزة لذلك المجتمع.
في الكثير من الممارسات السلبية، تظهر صورة المجتمع ككل، وإذا كان تنظيم المجتمع وأموره وظيفة شبه حصرية للدولة، إلا أن تغيير الثقافات لا يمكن أن يكون حصرا للدولة. عدم تقديس العمل، وتدني الإنتاجية، وهدر وقت العمل، وعدم القدرة على النقد الصريح والاستعاضة عنه بالنميمة، والشللية، والمحسوبية، كلها ممارسات “تزدهر” في المجال العام. التغيير الحقيقي يكمن في هدم هذه “المعايير” التي تفشت، واستندت إلى “انزياح” في مفهوم “الشطارة” الذي أجاز استدخال ممارسات لا أخلاقية تحت لافتة “الذكاء”!
لا يوجد ما يمنع من الكتابة في الشأن السياسي، بما يعنيه ذلك من مفهوم ضيق للعامة. أو في الفساد المالي أو الإداري في المؤسسات العامة. لكن، في النهاية، ينبغي معرفة أن الكتابة عن بؤر الفقر، مثلا، أو فشل مشاريع التنمية، أو عن المجتمعات الأقل رعاية، هي أمور يجب أن تأخذ في حسبانها المعادلة من طرفيها؛ الدولة والمجتمع، لا أن نحمل الدولة وحدها مسؤولية الفشل ذلك، هذه الكتابة يجب أن تؤشر بوضوح إلى مسؤولية الحكومة بسبب فساد مشاريعها وتخبطها في التخطيط، وعدم الاستدامة، واستنادها إلى “البروبوغندا” أكثر من النتائج وقياس الأثر. لكن، وعلى الجهة الأخرى، ينبغي أن نؤشر كذلك إلى سلبية المجتمعات واتكاليتها، وعدم رغبتها بالخروج من مفهوم “الرعائية”، وما يحمله هذا الفهم من صفات الكسل وعدم الرغبة بالتقدم والإنجاز.
السياسة مفهوم واسع، يكتب فيه كثيرون، كل حسب الزاوية التي يراها مهمة، لكن الكتابة في هدم المفاهيم المجتمعية السلبية هو إصلاح حقيقي يمكن أن يؤدي إلى قفزة واسعة باتجاه بناء دولة العدالة والمساواة والرفاه، فحين يتحقق ذلك، سيكون المسؤول المقبل الذي نتمناه قادما من هذا المجتمع!