يعتبر قطاع التعليم العالي من أهم إنجازات الدولة الأردنية، على مدار عقود من العطاء والتطور والتوسع بشكليه الأفقي والرأسي، ذلك أنه لم يكن في الأردن حتى بداية السبعينات من القرن الماضي إلا جامعة واحدة، فتية، صغيرة مقتصرة على العلوم الإنسانية، إلى أن كانت تلك القفزات الضخمة في هذا الحقل إلى أن وصلنا إلى هذا العدد الكبير من الجامعات الرسمية والخاصة، وبكل التخصصات العلمية والإنسانية، قادرة على أستيعاب الجزء الأكبر من الراغبين في الدراسة الجامعية وبكل مستوياتها، بل وقِبله للطلبة من الأشقاء العرب ومن الدول الصديقة?.
إن مسيرة التعليم العالي في بلادنا، إنجاز نعتز به.. لكن التعليم العالي اليوم ينتظر نقلات نوعية، من شأنها الاستجابة إلى متطلبات قطاعات التنمية والخدمات الوطنية، وإلى إعادة ترتيب من شأنها أن تدفع بمسيرة التعليم العالي نحو المزيد من العطاء والتقدم.
وهنا اُلقي الضوء على بعض المناحي وأوردُ بعض المقترحات بهدف الأرتقاء بمسيرتنا الوطنية في هذا الحقل الهام:-
1)..
أعتقد أن تجربتنا بأسلوب التعليم عن بُعد والتوسع بها الذي جاء استجابة للظروف التي فرضتها علينا جائحة كورونا. هي تجربة مقبولة، لكنها تحتاج إلى تطوير، بحيث لا تكون مرتبطة بظرف أستثنائي، كما هو الحال اليوم وأهمية أن تصبح جزءاً رئيسياً من أدواتنا في حقل التعليم العالي.
فالتعلم عن بعد، متبع في دول العالم المتقدم، وخصوصاً في مجال الدراسات العليا، وهذا نموذج يُحتذى به، ذلك أن التوسع بهذا الأسلوب وفي حقل الدراسات العليا تحديداً سوف يكون جاذباً إلى آلاف الطلبة من الخارج، بل ويسهل مهمة العاملين والراغبين بالدراسات العليا، ويساعد المؤسسات الخاصة والعامة أن تدفع بمنتسبيها إلى المزيد من المعرفة، دون أن يؤثر الغياب على أداء تلك المؤسسات.
2 )..
إن امتحان القبول الجامعي الذي طرحه وزير التعليم العالي مؤخراً، به وجاهة، ذلك أن اعتماد علامة «التوجيهي» وحدها كأساس للقبول الجامعي به ظلمٌ لطلبة مؤهلين راغبين لدراسة تخصص معين، لكنهم لم يتمكنوا من تحقيق علامات تؤهلهم إلى الالتحاق بذلك التخصص. وأن لذلك أسبابه الموضوعية والذاتية، فالفارق الكبير في وضع المدارس، بين مدرسة توفر لطلبتها كل ما هو ضروري للنجاح والتميز ومدرسة أخرى ربما تُشارف السنة الدراسية على الأنتهاء دون أن يتوفر للطلبة معلم مؤهل لتدريس الرياضيات أو الفيزياء على سبيل المثال. كما أن ظروف الطلبة ا?معيشية عاملٌ مؤثر أيضا.
أرى أن تخصيص نسبة الـ 40% لامتحان القبول تعتبر كبيرة، ويمكن تخفيضها إلى 20% بحيث يُقتصر أمتحان القبول على مواد التخصص أولاً وقياس مدى رغبة واستجابة الطالب للتخصص المطلوب ثانياً. ذلك أن الكثير من الطلبة يذهبون للألتحاق باختصاصات معينة فقط تلبية لرغبة الأهل.
3)..
نعلمُ أن هناك مجالا واسعا في بعض الجامعات يجعلُ من الواسطة عاملاً مؤثراً في نتائج الامتحانات، وهذا أمر يضر بسمعة التعليم العالي ويدفع بخريجين دون المستوى المطلوب.. وهذا أمر يمكن تجاوزه أذا ما أتبعنا قاعدة الفصل بين الأستاذ الذي يدرس المادة، وبين الأستاذ الذي يجري الأمتحان. ودون أن يكون الأخير معروفاً للطلبة ولربما يكون من جامعة أخرى.
إن هذا الأجراء سوف يُمكننا من التيقن بأن تقييم الطلبة يتم وفق مسار موضوعي غير قابل للأختراق ويرفع من سمعة التعليم العالي في الأردن.
4)..
أعتقد أن التوسع في أسلوب التجسير هي غير صحيح ولا يتناسب مع متطلبات التعليم المهني وأحتياجات سوق العمل في بلدنا. فالطالب الذي أخذ مساراً مهنياً في الكليات المتوسطة، لا يجب أن يُمنح الفرصة أن يلتحق في الدراسات الأكاديمية. فالأردن يشكو من نقصٍ فادح في المهن المساعدة وبالمقابل يعج بفائض كبير من خريجي الدراسات الأكاديمية.
ولإيضاح ذلك وعلى سبيل المثال فإن، نسبة المهندس إلى المهني الطبيعية في الدول الصناعية هي (1- 5)، لكنها في الأردن (5) مهندسين لكل مهني!. هرمٌ مقلوب لابد من إعادته إلى وضعه الطبيعي. وأن التجسير لابد أن يكون في حدود ضيقة، بحيث يتم بنفس المسار المهني دون أن يتحول الى مسارٍ أكاديمي.
5)..
إن التقييم المتعلق برؤساء الجامعات وفق الأسلوب الذي أُعتمد مؤخراً غير مناسب، فلا يجوز أن يتم تقييم رؤساء الجامعات من قبل من يعمل تحت أمرتهم من موظفين وأكاديميين. فالنتيجة هنا سوف تفتقد إلى الموضوعية، بل وتجعل رؤساء الجامعات مستقبلاً أسرى لأمزجة ومصالح العاملين الشخصية، الأمر الذي يحول بين الجامعة وبين الإدارة النشطة والمبدعة البعيدة عن المؤثرات غير الموضوعية.
إن التقييم المطلوب لرؤساء الجامعات يجب أن يتم عبر لجان أكاديمية وإدارية نزيهة وصاحبة تجربة، وفق معايير موضوعية تأخذ بعين الاعتبار إنجازات الجامعة والتقدم بالبحث العلمي وسلامة الإدارة والوضع المالي للجامعة.
وبعد.. التعليم العالي في الأردن قصة نجاح تحتاج الآن إلى وقفة تأمل ومراجعة لقوانينها وأنظمتها وتعليماتها نحو نقلة نوعية كبيرة منتظرة..
والله والوطن من وراء القصد
رئيس مجلس أمناء جامعة الزرقاء