لقصر في الذاكرة أو بفعل مزاج سلبي مهيمن، تتجاهل التعليقات الإعلامية وعلى منصات التواصل الاجتماعي الحقائق البينة والمعلنة حيال الطريقة التي تعاملت فيها المؤسسات الرقابية والبرلمانية والحكومية مع تقرير ديوان المحاسبة لعام 2018 .
صدر التقرير قبل أسابيع قليلة وتسابقت وسائل الإعلام على نشر مضامينه، وحظي بتعليقات من كتاب مرموقين ومحلليين سياسيين، وترافق ذلك مع سيل هائل من التعليقات على منصات التواصل الاجتماعي عن المال المهدور والفساد المستشري، والأهم غياب المساءلة والمحاسبة.
والحقيقة أن التقرير على ما تضمن من معلومات موثقة ومعززة بالبينات، خضع قبل صدوره بأشهر لتحليل دقيق من قبل اللجنة المالية في مجلس النواب، ولجنة وزارية شكلتها الحكومة لهذا الغاية. كما عقدت برعاية من رئيس اللجنة المالية النائب خالد البكار، اجتماعات مشتركة مع الحكومة حضرها ممثلون عن هيئة النزاهة ومكافحة الفساد وديوان المحاسبة. “مالية النواب” شكلت لجنة مصغرة خاصة بتقارير ديوان المحاسبة ترأسها النائب معتز أبو رمان.
في المحصلة كل لجنة من طرفها درست المخالفات والاستيضاحات الواردة في التقرير السنوي، وعملت على تصنيفها، حسب درجة خطورتها، وما ثبت فيها شبهات فساد تم إحالتها للقضاء فورا، وتم تحويل حزمة أخرى لهيئة النزاهة لاستكمال التحقيقات واتخاذ الإجراءات اللازمة. “مكافحة الفساد” عملت بجهد مثابر وجدي على جميع الملفات، لكن التحقيقات بمثل هذه القضايا تحتاج لفترة من الوقت، لضمان دقة النتائج والعدالة في الإجراءات المتخذة.
الحكومة وبالتعاون مع مالية النواب أنجزت تسويات بشأن عديد المخالفات ضمنت بموجبها استعادة أموال للخزينة تقدر بعشرات الملايين. ومنح رئيس الوزراء دوائر حكومية سجل بحقها مخالفات مهلة قصيرة لتصويبها ومن يتخلف عن ذلك يتعرض للمساءلة القانونية والعقوبات الإدارية.
كان هذا عملا غير مسبوق؛ معالجة المخالفات الواردة في تقرير ديوان المحاسبة قبل إصداره رسميا، فيما كان النهج السابق إيداع التقارير في أدراج الحكومة ومجلس النواب لسنوات دون النظر فيها.
اللجنة المالية في مجلس النواب والحكومة ذهبتا خطوة أبعد من ذلك، إذ عكفتا على مناقشة المخالفات الواردة في تقرير العام الحالي”2019″ قبل صدوره رسميا بعام كامل، واتخذتا الإجراءات اللازمة بحق المؤسسات المخالفة، وتعاملتا بمهنية رفيعة مع التعديات على المال العام بما يضمن عودة الحق للخزينة.
لم تبخل الحكومة ولا مجلس النواب بشرح جهودهما على هذا الصعيد عبر وسائل الإعلام، وقبل يومين فقط خرج وزير الدولة لشؤون رئاسة الوزراء سامي الداود ليذكّر وسط عاصفة النقاش بما اتخذته الحكومة من إجراءات بهذا الصدد. لكن ثمة تيار واسع لا يريد أن يقر بالحقيقة ويفضل الاستسلام للانطباعات السلبية السائدة عن عجزنا وقلة حيلتنا وغياب إرادتنا في مكافحة الفساد.
والمفارقة المؤسفة في هذا كله، أن تقارير ديوان المحاسبة وجهود مؤسسات الرقابة، تحولت إلى أدوات للطعن بمصداقية الدولة في مكافحة الفساد، عوضا عن أخذها كدليل على جديتها في التصدي لخطر تعاني منه كل المجتمعات.