على قرب من التاريخ والمجد تقع مدينة بصيرا التي كانت عاصمة احدى اهم الحواضر التي استوطنتها حضارات الشرق واختارها الأدوميون كعاصمة ومقر لدولتهم التي حكمت كل المدن المترامية على حواف حفرة الانهدام. طبوغرافيا المكان المحاط بالأودية من جميع الجهات جعل من بصيرا حصنا يصعب اقتحامه وأكسب أهلها وسكانها منعة واستقلالية واعتزازا بالنفس ظل ملازما للمكان وأهله على مدى القرون والايام.
في هذه المنطقة التي صادقت الشمس وتصالحت مع الجبال يوجد الكثير مما يدفع للتأمل والتفكير في عبقرية المكان وتاريخ اهله وخصالهم التي لا تضاهى، من جبل الكولا المقابل للبلدة كالستارة الى العبر والعرش والجنين تتوالد الروايات التي تحكي قصص المعارك والغزو والانتصارات والبناء، وفي الأودية التي تتدحرج شمالا وغربا توجد الآلاف من الصور التي استوطنت عقول ومخيلة الاهالي الذين اعتادوا المغامرة في طياتها واكتشاف بعض خباياها واسرارها.
في بصيرا التي تشعر بمسؤولية تتجاوز حجم التعليمات التي يصدرها الناطق الاعلامي باسم الحكومة وتغريدات الناشطين الذين يحثون على التباعد الجسدي والإكثار من استعمال المعقمات يعرف الناس طرقا واساليب اخرى لمحاصرة الوباء ويؤمن السكان بأن «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد اذا اصيب منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» في هذه البلدة الوادعة التي بدأت حياتي العملية معلما في مدرستها التي تطل على مزارع الجوافة والبرتقال يحمل مفهوم المسؤولية الاجتماعية دلالات تتجاوز التعريفات التي يقدمها الناشطون اجتماعيا والاساتذة الذين يسند إليهم تدريس مساقات التربية الوطنية .
هنا في بصيرا وسائر بلدات الجنوب المنهك حيث الاحساس بالمصير المشترك يجري الحديث عن المسؤولية الاجتماعية بطرق مختلفة فهي لا تقتصر على ان تقدم الشركات بعضا من ارباحها للمجتمع المحلي ولا تتوقف عند ادارة قرص الهاتف لإبلاغ الشرطة عن ارتكاب جريمة في الجوار كما انها اكثر من ان تهرع لمساعدة رجال الاطفاء على السيطرة على حريق في هشيم على جنبات الطريق المؤدي الى البلدة او تعبئة اكياس الرمل ووضعها على حواف مجرى السيول لكي لا تداهم البيوت والمتاجر وتقطع ارزاق الناس وتدمر ممتلكاتهم.
في بصيرا الريادة ما أن سمع الاهالي عن تسجيل اصابة بالكورونا لأحد السكان حتى تداعى اهالي المدينة التي يزيد سكانها على 10000 نسمة الى الحظر الشامل فلزم الناس بيوتهم لا يبرحونها لأي سبب من الأسباب، في هذا السلوك العفوي الذي فاق في دقة تطبيقه والتزام السكان به كل التوقعات التي يحملها الناس عن مستوى انضباطية الأردني وتفاعله مع الاحداث والتعليمات.
الظاهرة المحلية جاءت بلا تعليمات وتوجيهات وبلا أوامر او حضور شرطي فقد قال الاهالي ان من واجبهم حماية انفسهم وتعرفوا على ان الوسيلة الاجدى تكمن في الابتعاد عن مكامن الخطر وسبل العدوى ففعلوا ما فعلوا. ما قام به السعوديون من اهالي الطفيلة نموذج يستحق الاعجاب ومثال يستحق ان يحتذى من قبل المدن والبلدات والاحياء الاردنية. بلا ضجيج وبلا صفارة انذار يدرك الاردني الخطر ويتجاوب مع قدر مناسب من الارشادات ويتطلع الى ان يقوم الجميع بأدوارهم من اجل بناء وطن عزيز كريم خال من الفوضى والتناقض والارتجال.
تحية الحب والتقدير للاهل في بصيرا شيوخا واطفالا نساء ورجالا مبادرين ومتطوعين وحمى الله البلاد واهلها.
الموضوع السابق
الموضوع التالي