بلادنا الاردنية تمر الآن بمتاعب جمَّة، لا ينكرها أحد ويشعر بها الجميع، مع الاختلاف في درجة المعاناة، فالفقراء ومحدودي الدخل يعانون من ارتفاع الأسعار وتضاؤل فرص العمل والتشغيل، والطبقة الوسطى تشكو أيضا من ارتفاع الأسعار بالإضافة إلى البطالة، والطبقة الأعلى تشكو من تضاؤل فرص الربح والاستثمار، والجميع يخافون مما قد يأتي به المستقبل…
متاعب الاردن الراهنة تعددت، ولكن من المفيد التمييز بين درجات تأثيرها على واقع المواطنين والحكومة، حيث يمكن تصنيفها الى نوعين، إذ إن كلا منها يتطلب حلولا مختلفة عن بعضها وللتوضيح نشرح ونقول:
النوع الأول، … من متاعب الاردن الاقتصادية الحالية يتكون من متاعب حقيقية وجسيمة، ولكنها أيضا قديمة. هذه المتاعب تعود إلى الوراء لسنوات كثيرة فهذه المتاعب نتجت في رأيي عن تراكم سياسات اقتصادية حمقاء استمرت لنحو عشرين عاما… وللتوضيح أكثر نقول بأن هذا النوع من المتاعب يشمل استمرار معدل منخفض لنمو الناتج المحلي، وتفاوت فظيع في نمو الدخول، ومعدلا عاليا جدا من البطالة، واستمرار الاختلال الكبير في الميزان التجاري، وفى موازنة الدولة…
لقد قُدِمتْ تفسيرات مختلفة لتفاقم هذا النوع من المتاعب، ولكنى أميل إلى إلقاء اللوم في ذلك على ما بدأ تطبيقه من سياسات اقتصادية منذ أوائل الالفية الجديدة (2000م)، واستمرت دون أي تغير مهم ، هذه السياسات يمكن الإشارة إليها اختصارا بعبارة ” الانفتاح الاقتصادي ” غير المنضبط، ولكنها تشمل أكثر من مجرد فتح الأبواب دون تميز كاف أمام التجارة والاستثمارات والمعونات والهبات الأجنبية، إذ تشمل أيضا نكوص الدولة عن القيام بكثير من واجباتها في التنمية والرقابة، وعلاج ما ينتج عن النشاط الخاص من خلل في مجالات الاستثمار وتوزيع الدخل…
أما النوع الثاني، متاعب نتجت عن الازمات المحيطة بالأردن وبخاصة منذ العام 2011 وقت اندلاع ما سمي بالخريف العربي ومع ما صاحبة من مخرجات الاحتلال الأمريكي للعراق في العام 2003 واندلاع الحرب في سوريا، ولكنها نتائج طبيعية يجب توقع حدوثها في أعقاب أي ازمات، وقد كان من السهل والواجب توقعها، كما أنه كان من الطبيعي أن تزول بعد فترة قصيرة من حدوث هذه الازمات… والذى أقصده بالنوع الثاني من المتاعب، وهو ما وصفته بالمتاعب ” الطبيعية “، التي يتوقع أن تقترن بأي أزمات في المحيط او الاقليم، وهو ما حدث بسبب ما أشاعه الخريف العربي من مناخ من عدم الاستقراء، لم يكن غريبا إذن أن تنخفض الإيرادات من السياحة، ويخفض معدل الاستثمار المحلى والأجنبي، ومن ثم انخفاض معدل الناتج المحلي، وارتفاع معدل البطالة، وانخفاض الإيرادات الحكومية ومن ثم زيادة عجز الموازنة العامة، والانخفاض في تحويلات العاملين بالخارج، وانخفاض القيمة الشرائية للدينار وتدني نسبة الاستهلاك دون الـ (10%) بسبب جنون ارتفاع الأسعار…
وفي إطار هذا النوع من المتاعب نزيد ونقول … في اقتصاد السوق الذي تحكمه قوانين ثابتة لا يوجد دكاترة اقتصاد، ولكن يوجد اقتصاد الدكاترة الذين يتحكمون فيه بمخترعاتهم فهو اقتصاد تجريبي وعندما دالت حكومات التحول الاقتصادي والاجتماعي في بلادنا، فإن الذي استولى على دفة الاقتصاد هم دكاترة الاقتصاد الذين شبعوا فينا تجارب فاشلة اسلمتنا الى الفقر والديون والتخلف…
وفـــــي زمن اقتصاد السوق لا يزال الدكــــــاترة لهــــــم الهيمنة علـــــى التوجهات الاقتصادية، فهم الــــذين يتولون الاستثمار بتطفيش المستثمرين وهم يرون في القطاع العام مملكة يصعب التنازل عنها مهما كانت الخسائر بالملايين وفي رعايتهم لها في بلادنا ارتفعت نسبة البطالة الى 19% وطارت المديونية الى سقف الـ 30 مليار دينار وانخفضت الصادرات وخرب بيت التعليم وانتا ماشي…
وفي إطار ما قدمت اليه لا يمكن اغفال الاضراب الأطول في تاريخ البلاد منذ تأسيس الدولة الأردنية في عشرينيات القرن الغابر وهو اضراب المعلمين، .. وبعيدا عن كيل الاتهامات للمعلمين والتطرف الى رمي السهام الطائش نحو اضرابهم وللتذكير نقول يُخطئ من يظن أن النهضة التي تقوم عليها الدول، وينشدها الاردن في الوقت الراهن، قائمة فقط على آلات ومعدات ومصانع وإنترنت فحسب، بل أن النهضة الحقيقية التي يتطلع إليها الوطن تبدأ من المعلم في المدرسة في هذا البلد الذي يغطي القطاع التربوي نحو ثلث سكانه…
وحيث ان هذا الاضراب الذي يشمل نحو (100 الف معلم) ومليوني طالب في المدارس الحكومية والذي يجب ان يتم احتوائه وبالسرعة الممكنة ومن جميع الاطراف الحكومية والشعبية والمصلحة الوطنية ان لا يتمترس الطرفين (الحكومة والمعلمين) خلف مواقفهم والتي تعود بالضرر بالدرجة الاولى على ابنائنا الطلبة وان نفوت الفرصة لكي لا تكون مقدمة لحركات احتجاجية اوسع وخاصة في هذه الظروف الاستثنائية الساخنة التي يتعرض لها الاقليم وبوادر اندلاع حرب اقليمية ليست بعيدة الامر الذي يجب تظافر الجهود لاحتواء هذا الاضراب ووضع الحل الذي يتوافق عليه الجميع وتعود العجلة التعليمية الى مقاعد الدراسة وينتظم تلاميذ المدارس في صفوفهم وكفى!… وهنا ندعو الطرفين الحكومة ونقابة المعلمين الى تحكيم الرأي وهو سيد الاحكام…
ولوضع النقاط على الحروف لتفسير ما الت اليه المتاعب التي قدمت اليها ، اكاد اجزم الى ان اختيار من يديرون دفة الإدارة الحكومية والمسؤولين الجدد (منهم القديم في السلطة واعيد برمجته من جديد) ، (بل واختيار رؤساء الحكومة أنفسهم) وكثرة تبدل الحكومات، والذين اظهروا عدم قدرتهم على ضبط إدارة الأمور الاقتصادية يضاف الى ذلك عدم قدرتهم في فهم ما يعاني منه الشعب بكافة أطيافه من حالات الفقر والبطالة والركود الاستثماري، أضف إلى هذا كله مواقف غير مفهومة البتة من جانب الممسكين بالسلطة تجاه الحصول على مساعدات اقتصادية خارجية، سواء من صندوق النكد أو البنك الدولي أو الحكومات العربية، … إذاً ما هذا التضارب والغموض في التصريحات الرسمية حول هذه المساعدات؟ .. وما هو الحديث عن المساعدات الأمريكية؟ هل صحونا من سبات بانها تهدد استقلالنا وحرية إرادتنا؟ وما هو ارتباطها بالابتزاز الأمريكي على هامش صعقة القرن؟ .. فلماذا إذن قبلناها طوال نصف قرن من الزمان؟ والممسكون الحاليون بالسلطة كانوا على أي حال هم من بين الممسكين بالسلطة على الأقل طوال العشرين عاما الماضية…
ختاماً .. من المؤكد إذن أن متاعبنا الاقتصادية الحالية (مثل متاعبنا السياسية) ليست نتيجة طبيعية لمحيطنا الملتهب ولا هي من تأثيرات الخريف العربي، بل والأرجح أيضا أنها ليست مجرد ” السهو والخطأ “، .. بل هناك من الدلائل ما يشير إلى أنها متاعب متعمدة في ظل المشهد الضبابي لإدارة الازمات، لتحقيق هدف أو أهداف لم تتضح بعد…. قادم الأيام حبلى بالمفاجآت!
باحث ومخطط استراتيجي