تجربة فريدة تلك التي يمنحنا إياها مركز الحسين للسرطان، بالاستماع إلى بعض المصابين والمتعافين من مرض السرطان وهم يروون قصصهم من خلال مختلف القنوات الإعلامية والاجتماعية، والتي اختار أصحابها طوعاً وبشجاعة يحسدون عليها مشاركتنا تفاصيل رحلتهم مع مرض ما يزال البعض يخاف من مجرد ذكر اسمه.
هذه التجربة أتاحت لنا فرصة نادرة لرصد النفس البشرية في مختلف حالاتها، في ضعفها وقوتها، يأسها وأملها، استسلامها وتشبثها بالحياة، لكنها في نهاية المطاف النفس المطمئنة لقضاء الله، الراضية بحكمه، وفي الوقت نفسه الآخذة بالأسباب المادية.
هذه العناصر المعقدة والمتناقضة في تكوين النفس البشرية، تؤدي الى انتصار الإنسان في معركته مع الشدائد، ذلك النصر الذي وصفه توماس مان بهذه الكلمات “إن الصمود للقدر وملاقاة الشدائد بالابتسام، شيء يعلو على معنى الصبر”.
لا يمكن للمرء إلا أن يقف مشدوها عند الاستماع لأناس من أعمار مختلفة، وخلفيات متباينة، يروون معاناتهم خلال رحلتهم مع مرض صعب المراس كثيراً ما ننسبه للمجهول “ذاك المرض” مخافة ذكر اسمه.
أطفال في عمر الزهور، وآخرون في ريعان الشباب، ورجال ونساء من أعمار مختلفة، خاضوا المعركة حتى حافة الانهيار، لكن إيمانهم وعزيمتهم، والدعم الذي يتلقونه ممن حولهم، كل ذلك أمدهم بالوقود اللازم للاستمرار في هذه المعركة الشرسة، والإصرار على المضي قدما في رحلة غير مضمونة العواقب.
لا يملك المرء، عند الاطلاع على هذه التجارب، إلا أن يراجع نفسه وأن يشعر بالخجل من بعض الهموم التي تنغص عليه حياته وتسبب له الكآبة، هذه الهموم التي تقتات على أرواحنا وتستنزف أعصابنا وتسد علينا الأفق حتى أصبحنا نرى الدنيا من خلالها لتسرق منا لحظات السعادة التي نحن في أمس الحاجة إليها في زمن تقلصت فيه مساحات الفرح. لكن هل تستحق هذه الهموم الصغيرة الحيز الذي تستحوذ عليه في حياتنا؟ وما قيمة هذه المنغصات أمام ما يعانيه المرضى من آلام جسدية ونفسية وروحية؟
ما قيمة هذه الهموم أمام طفل حرم من اللعب مع أقرانه أو من مرافقتهم الى المدرسة لسبب لا يمكن لعقله الطفولي أن يستوعبه أو أمام فتاة في مقتبل العمر، وقفت ذات صباح أمام المرآة فلم تجد شعرا تمشطه، ما قيمتها أمام امرأة فقدت عضوا من جسمها طالما ارتبط في وجدانها بأنوثتها، أو أمام مريض يكابد الحمى ينتظر فجراً يخشى ألا ينبلج؟
هذه القصص ومثيلاتها تشكل فرصة حقيقية لنا جميعا لمراجعة النفس وتصحيح الكثير من الأمور التي نتعامل معها كمسلمات، فهي بمثابة جلسات للعلاج النفسي، ترينا تفاهة همومنا الصغيرة التي تستنزف طاقاتنا وأوقاتنا فتأخذ من حياتنا أكثر مما تستحق.
الموضوع السابق
الموضوع التالي