«كنا نتحدث عن مصالح الدولة العليا.. لكن الآن نتحدث عن مسألة أمن وطني أردني بكل ما تعنيه الكلمة»… ما الذي تعنيه بصورة محددة العبارة سالفة الذكر؟ تلك عبارة وردت كقاعدة أساسية في مقال فريد نشره رئيس الوزراء الأسبق الدكتور معروف البخيت، وفي هذا التوقيت تحديداً، وبعد أيام فقط من أول ظهور له في مجلس الأعيان إثر أزمة صحية حجبته لعامين عن الجميع.
البخيت هنا على الأرجح لا يتحدث عن التحديات العملاقة التي تواجه الدولة الأردنية في ظل مسار تصفية القضية الفلسطينية الحالي بصفته الرسمية، لكن بصفته الوطنية أيضاً، وبخبرته التي بدأت مع تولي سفارة بلاده في تل أبيب ثم تركيا ثم في القصور الملكية قبل الحكومة وبعد المشاركة الفعالة في وجبات تفاوض مع الإسرائيليين.
الأهم أن البخيت كان طوال عقدين أعقبا توقيع اتفاقية وادي عربة من الباحثين والسياسيين الذين يؤمنون بأن عملية السلام حافظت تماماً على المصالح العليا للدولة الأردنية، وأسست لشراكة مع العمق الإسرائيلي، ووفرت الحماية لتلك المصالح.
لذلك يصبح مقال البخيت الذي نشرته له يومية الغد، أمس الأحد، وقفة مهمة جداً في ترسيم كيفية تفكير المطبخ الأردني الآن أو جناح أساسي فيه كان يعمل على إدامة العلاقة مع إسرائيل وتفعيل ما يسمى بعملية السلام.
الجميع في انتظار إجراءات «وقاية» إذا تعذرت «المقاومة»
ولذلك يكتسب الكلام أهمية قصوى عندما يصدر عن شخصية خبيرة بالإسرائيليات من وزن البخيت اعتزلت مواقع الاشتباك لأسباب صحية وعادت بمقال تنويري يقول وبوضوح ضمنياً بأن المصالح العليا للدولة الأردنية «مهددة الآن»، وأن المسألة لم تعد تتعلق بها بقدر ما تتعلق بـ»مسألة أمن وطني أردني بكل ما تعنيه الكلمة من معنى».
وتلك نبرة تحول كبيرة جداً ليس في خطاب البخيت فقط، بل في فكر واتجاه وتقييم العديد من رموز اتفاقية وادي عربة والمؤمنين بالسلام أولاً ثم الشراكة تحت يافظة عملية السلام مع الإسرائيليين.
قبل البخيت، تراجع في المنقول عنه موقع ومهندس اتفاقية وادي عربة الدكتور عبد السلام المجالي عن مقولته الشهيرة، وقوامها أن «وادي عربه دفنت الوطن البديل» وخلال أقل من ربع قرن بدأ سياسيون ينقلون عن المجالي قوله بأن السلام لم يدفن هذا الخيار.
وقبل الجميع، أسس وزير البلاط الأسبق الدكتور مروان المعشر لقاعدة الاشتباك الأساسية عندما رفع شعار..»إسرائيل انقلبت على السلام وعلينا»، جملة سمعتها من الدكتور المعشر مرات عدة ويرددها الآن بإيمان وهو يقترح مقاربة إصلاحية داخلية جذرية تهيئ لمقتضيات المرحلة وتداعياتها.
بمعنى أو بآخر، يمكن القول بأن ما يوحي به حديث البخيت عن استبدال مقولة المصلحة العليا بالمسار الأمني الحساس أقرب إلى انقلاب في طريقة تفكير النخبة الأردنية، خصوصاً في الجناح الذي راهن على حسابات تدفن الرواية اليمنية المتشددة عن وطن للفلسطينيين في الأردن، الأمر الذي يبرر برأي البخيت التركيز على قضية أمن قومي ووطني الآن.كل هذه التداعيات برزت في الساحة المحلية بعد التصريحات الحساسة الأخيرة للسفير الأمريكي في المنطقة ديفيد فريدمان، التي حسم فيها شأن الضفة الغربية، وقال إنها للدولة اليهودية.
وكذلك ضم الأغوار، ما يترك فراغاً – برأي سياسيين كبار – بعنوان السؤال الذي يحاول الأردن تجنبه تماماً من سنوات.. من الذي سيدير التجمعات السكانية الستة في الضفة الغربية؟… وإلى أين ستذهب الكتلة الديمغرافية البشرية المقيمة الآن في الضفة الغربية إذا ما قرر الأمريكيون ضمها لإسرائيل؟
سواء كان التلميح الأمريكي في اتجاه «الخيار الأردني» في الضفة الغربية حيث «عبء السكان» برأي السياسي عدنان أبو عودة، أو في اتجاه «الوطن البديل» والترانسفير الطوعي حسب تصور المخضرم طاهر المصري، فالأردن هو الجغرافيا التي ستدفع الثمن من حساب هويته ودولته وهويتها.
البخيت لا يريد، والمصري يحذر من وضع استراتيجي عقيم وعدمي يتحول فيه الأردن إلى وطن تتفرغ على حساب مصالحه الحيوية والأساسية الأجندات الدولية والإقليمية، ويوافق المعشر على أن العقلانية تقتضي أن تخطط لنفسك، حتى لا يخطط لك الآخرون، أما أبو عودة فيصر بتقديره على أن ما يجري هو تمهيد لعملية سلام على أساس «سكان واقتصاد»، وهو أمر خطر جداً على الأردن ويستدعي القلق.
لكن القلق بمواصفاته الأردنية فعال ونشط جداً هذه الأيام دون إجراءات أو ترتيبات تصدي ووقاية على الأقل بدلاً من المقاومة للاتجاه اليميني الأمريكي الإسرائيلي الذي يكشف عن هويته، خصوصاً على صعيد تمتين الجبهة الداخلية بعملية إصلاح سياسي ضخمة وعميقة تتطلبها المرحلة، ليس على مستوى الشعب ومصالحه فقط كما يقدر القيادي في الحركة الاسلامية الشيخ زكي بني ارشيد، ولكن على صعيد المؤسسات الأردنية الرسمية والأهلية أيضاً.
القدس العربي
الموضوع التالي