السبت, 22 نوفمبر 2025, 23:50
صحيفة الأمم اليومية الشاملة

ما بعد الاعتذار

في بدايته، لم يكن أكثر من جملةاثنتا عشرة كلمة كتبتها حكومة استعمارية بعيدة وباردة وعلى ورقٍ رسمي، فاهتزّ بها كونٌ بأسره.كان ذلك في تشرين الثاني 1917.ومنذ يومها.. لم تعد للكلمات طابع البراءة.صارت الوعود كلها موضع شك، وصار التاريخ يُقاس بعدد المرات التي كُسرت فيها القيم الإنسانية الراسخة باسم “المصالح العليا”.جملة واحدة فقط غيّرت حياة شعوبٍ بأكملها.وعدٌ قيل بلهجة المنتصر، ففتح الباب أمام ما يقارب من قرنٍ من الانكسارات.لم يكن مجرّد وثيقة سياسية، بل شرارةً أحرقت فكرة “العدالة” في الوعي الإنساني.وعد بلفور؛ اللحظة التي فقد فيها العالم إيمانه بالكلمات.منذ جرّة القلم البائس ذاك، صارت الوعود أثقل من معناها وتغيّر مفهوم الكلمة في معاجم القلب والوجدان.من وعد بلفور إلى وعود السلام التي تُكتب بكل حبر الأرض، تتكرّر الصيغة ولا تتغير النتائج..وعودٌ بالفرج تنتهي بأكفان، ووعودٌ بالعدالة تُسوّق كصفقات سياسية، ووعودٌ بالإغاثة لا تصل أبدًا.وحتى حين اعتذر مطلقو الوعد ومهندسو الخراب بعد قرنٍ من الجريمة، بدا الاعتذار بلا معنى؛كلماتٌ تُقال دون فعل، فتستمر المقتلة بصيغةٍ “أكثر تهذيبًا”…ولازال العالم يحيا تحت ظلال ذلك الوعد الأول الذي كسر المعنى وأفقد المُفردة ما كان فيها من أمل.لكن في قلب كل هذا الخراب الطويل، بقي وعد واحد لم يُكسر بعد: وعد أصحاب الأرض… وعد الفلسطينيين.وعد لا يُمنح في قاعات المؤتمرات، بل في الخيام وفي البيوت المهدّمة،في تفاصيل الحياة اليومية التي تأبى الاندثار رغم الألم،في اللغة التي ما زالت تنجب أسماءها رغم كل محاولات المحو.وعدٌ يتحقق بالفعل لا بالقول:في حصاد الزيتون تحت الحصار،في استعادة الأسماء من النسيان،في الحكاية التي تُروى للصغار حتى يعرفوا من هم، وإلى أين تمتّد بلادهم، ومن أين يبدأ التاريخ.وعدٌ بالمقاومة، لا بالاستسلام؛بالاستمرار، لا بالاندثار.هو وعدٌ لا يطلب اعترافًا، ولا يسعى إلى تصفيق،لكنه يخلق التوازن ويشعل الإيمان بالنهايات الإلهية الموعودة وسط عالمٍ مختلّ.بعد أكثر من خمسةٍ وسبعين عامًا على الوعد الذي غيّر وجه العالم،ما زال الفلسطيني يكتب وعده المضادّ: وعد الحياة في وجه الفناء.وكلّما دُفن وعد، يولد من رماده وعدٌ جديد، أكثر إيماناً بجدوى الفعل لا التعهدات.لا يملك الفلسطيني ترف الوعود، لكنه يملك ما هو أبقى منها:إصرارٌ لا يوقّعه أحد، ولا يلغيه أحد.

Share and Enjoy !

Shares