كتب : محمد المشايخ
يجري أستاذ الاعلام الروائي أ. د. عصام سليمان الموسى في روايته «1989» فحصا موضوعيا وجماليا لمعرفة الأثر الذي تركه في تلاميذه بعد سنوات من دراسة الصحافة في الجامعة، ويُقدّم لقرائه الصحافي»سلمان سلامة»باعتباره النموذج للصحفي الملتزم بهموم شعبه وأمته، المطالب بالاصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي وحتى الفكري، والمساهم قولا وفعلا في إحداث التغيير الايجابي، بعد أن رفض الحالة السلبية لحقوق الانسان وحرياته في وطنه، وما رافقها من ممارسات طالت الفقراء والكادحين والمعذبين في قرى الجنوب، قبل هبة نيسان عام 1989.
فكان الصحافي «سلمان سلامه» كما اراده استاذه أ.د.عصام الموسى: لا يهادن، ويغرد خارج السرب، ويسبح ضد التيار، ويرى أن النقد مفتاح التطور والتقدم وإصلاح الخلل، وفي النهاية :دفع الثمن، من خلال نفيه إلى معان أولا، ومن ثم استشهاده وهو يدافع عن الكلمة الحرة الشريفة، وليكون وغيره من المناضلين بأقلامهم وبمظاهراتهم ومسيراتهم وحراكهم الشعبي، سببا في هبوب رياح الديمقراطية على المملكة، بعد سنوات طويلة من الأحكام العرفية، الأمر الذي يشعر القارئ أن روح الشهيدين ناهض حتر وميشيل النمري ترفرف عبر صفحات هذه الرواية من خلال شخصية شهيد الصحافة في الرواية «سلمان سلامة».
علـّمني أستاذي د.سمير قطامي، استاذ الأدب الحديث في الجامعة الأردنية عام1976، كيف قام الكاتب السوري سعد الله ونوس بتسييس فن المسرح، وها هو أ.د.عصام الموسى يعلمنا في روايته»1989»درسا آخر في تسييس فن الرواية، عبر إحداث تلاقح وإخصاب وإغناء بين السرد والسياسة، وعبر مزج السياسي بالتخييلي، حتى أبدع عملا سرديا مؤسسا على حقائق واقعية، وبذلك انضم د.عصام الموسى إلى قائمة الروائيين العرب، الذين رفضوا واقعهم، بكل ما فيه، وناضلوا من أجل مواجهته وتغييره، وكأنها رغبة قصدية وملتزمة وملحة في التنوير السياسي، لإخراج تلاميذهم أولا، ثم عامة الشعب من حالة السبات إلى دائرة الوعي.
لا أعرف إن كان د.عصام الموسى ماركسيا أم لا، ولكن كل ما في روايته»1989»يجيب عن سؤال الفيلسوف كارل ماركس: (لماذا هذا التفاوت بين كثير من الناس الذين يعانون من الفقر المدقع والفاقة، وبين مقابليهم الذين يمتلكون الثروات الضخمة؟ وكيف يـُولـّد المجتمع الحديث، الذي يُسمى المجتمع الرأسمالي: الفقر العميم من جهة والغنى الفاحش من جهة أخرى؟ وما الذي يجعل من العلائق الاقتصادية والاجتماعية السائدة مـُولـّداً لهذا التفاوت؟).
تعتبر هذه الرواية، من أهم الروايات الأردنية المختصة بالبيئة المحلية، رغم مغادرتها المملكة أحيانا، للحديث عن أوروبا وأثر الشرق عليها، وعن التاريخ القديم منذ الأنباط، ودور المسيحيين العرب في النهضة، ويدلّ توسيع الدائرة في الرواية، على سعة ثقافة مبدعها، هذا عدا عن جرأته ووضوحه وصراحته، ومما يُحمد له أنّه لم يكن أحادي النظرة، بدليل انه كان كلما رأى الفرصة سانحة، يتطرق لموضوعات يُقدّم من خلالها نقداته ولسعاته للمعنيين، حول الثقافة السياحية، وتحديد النسل، والمرأة وقضاياها، والشباب ومشاكلهم،والتربية والتعليم والمناهج، وأيضا أطلعنا على عالم المسيحيين الجميل سواء في بيوتهم او كنائسهم الأمر الذي لم تبده الروايات الأردنية السابقة، كما أضفى على الرواية بهجة خاصة وهو يُقدّم أدب الرحلات بين البتراء والعقبة، وبين العاصمة والجنوب، جامعا بين القوميات والطوائف والفسيفساء التي يتألف منها المجتمع الأردني الذي يتصف بالتنوع والتعدد في إطار الوحدة الوطنية الجميلة، كيف لا، وقد كتب د.عصام الموسى روايته منطلقا من عقلية واعية وناضجة وطنيا وسياسيا وأدبيا،ومنفتحا على الأديان،لأنها كما قال تدعو لعبادة إله واحد، هو اله المحبة والسماحة والجمال،ومع ذلك طالب بوضع حد للتيار الديني المهيمن.
ولأسباب فنية، ولبث التشويق بين سطور الرواية، أورد فيها رقصات ودبكات وأغاني منها قارئة الفنجان، وياعنيد يا يابا،ومطلع قصيدة بالانجليزية لبيرجون، كما أحدث تداخلا بينها وبين غيرها من الأجناس الأدبية والفنية، بل إن السيناريو والحوار فيها يكادا يكونا جاهزَين، ورغم أن الحوار في العادة خاص بالمسرح، إلا أن الروائي وظفه في الرواية ليوصل من خلاله حمولته الفكرية التنويرية.ك
بل إنه لجأ إلى تقنية الحلم، حين رأت حورية في منامها أنها شاهدت سلمان خارجا من السينما، فتبعته، ورغم سيرها السريع خلفه إلا انها لم تتمكن من اللحاق به، وأيضا تقنية إدخال قصة داخل قصة، ومنها قصة الضرير الذي هربت زوجته مع أحد العمال وظل وحيدا، وأسماه أبا العلاء المعري، وتتسم الرواية بروعة الوصف، والذي اقترب كثيرا من المشاهد واللقطات السينمائية، ويتبدى الابداع في الوصف، عند الحديث عن الطعام،الأمر الذي كان يأخذ بعدا ساخرا، كقوله:الكلمة الآن للمنسف البلدي، دخل حاملا سدرا كبيرا من الرز واللحم وعلى قمته وضع رأس خروف، يُشرّب الرز أمامهم بالجميد وأخذوا يكورون الرز على شكل طابات صغيرة محشية بقطع اللحم يضعونها في افواههم.
وكما حصل بين عنتر وعبلة في الماضي حتى قال لها عنتر:ولقد ذكرتك والرماح نواهل..مني وبيض الهند تقطر من دمي، كذلك كانت العلاقة بين سلمان سلامة المسيحي بطل الروايه وحبيبته الصحفية حورية المسلمة، فأرواحهما معا رغم النفي، ورغم قساوة الظروف، ولئن كانت التماس في الرواية مع السياسة كبيرا، إلا أن التماس مع الجنس كان محدودا جدا ومن ذلك قول سلمان لحورية في العقبة:أتمنى أن أحملك وأقتحم الماء ونطفو معا إلى جزيرة قمران لنكون هناك وحدنا..الشخصيات في الرواية بعضها نامٍ، وبعضها الآخر يتسم بالجمود وخاصة فايز بك الكارات رئيس تحرير جريدة الحقيقة الذي لا يعترف بالحقيقة، والذي نفى سلمان إلى معان، ولذلك كانت مهمة الروائي صعبة وهو يحاول أن يوقظه، حتى قال:في زمننا هذا تقوم الصحافة الاستقصائية بتقليب الحجارة ونشر ما تحتها، وأضاف:في الأنظمة المتقدمة قد يخسر المسؤول موقعه إذا لم يستمع لطلبات الصحافة والصحافيين، وقال: نستقي معظم أخبارنا بما يجري في وطننا من المحطات الخارجية، وكثيرا ما كان الروائي يشطح في أحلامه إلى درجة طرح فيها إعادة تشجير بادية الشام كما كانت مشجرة ايام الأمويين، وإلى تدريس الفلسفة في الجامعات.
الأماكن في الرواية كثيرة ومتباعدة، ورغم تركيزها على جنوب المملكة، إلا أنها كثيرا ما حلقت في جغرافيا العالم، والزمن لم يكن محصورا في العام 1989،بدليل تلك الإشارات التاريخية، واللمحات التي كانت تستبق الحاضر لتستشرف المستقبل، والحبكة كانت متماسكة بدليل أن كل موقف فيها كان مبنيا على ما سبقه وسببا لما يأتي بعده حتى نهاية الرواية، وفي الختام اقول إن ابن المؤرخ والأديب سليمان الموسى الدكتور عصام ايضا مؤرخ وأديب أيضا، وجريء مثل والده، لا يخشى الرقيب الداخلي ولا الخارجي، بدليل انهما كتبا عن الحاضر، بعكس كل المؤرخين والمبدعين الذين كتبوا عن الماضي السحيق، وحين وصلوا إلى الحاضر صمتوا.
عن الدستور / محمد المشايخ